فلامينكو بقدمين عاريتين
تضع المربع الورقي الأبيض علي حامل الرسم ، تخط بقلم الرصاص خطوط جسد لين لامرأة أربعينية باذخة ، تضغط بإصبعها لتبزغ الألوان ، تمرر بها الفرشاة دون صقل ، تضعها كما يتراءى لها ، فتضع الأحمر الناري علي الشعر المنساب علي الكتفين وتضيف الأزرق بعفوية علي الجفون ، وتكور الشفاه الكرزية في ضمة من يستعد لتلقي قبلة يتمني أن تكون طويلة ، تلون الخدود بالوردي الرقيق ، تتذكر" كونشرتو الأبنوسي" الذي أهدته لها صديقتها صباحا ، تخرج الأسطوانة وتديرها في الجهاز ، وتدق بقدميها العاريتين علي البلاط البارد دقات إسبانية ، تمد يدها لتطير طرف فستانها الواسع في الهواء مثل راقصة إسبانية محترفة ، ذراعاها يراقصان الهواء ، لا راقص رشيق هناك يقترب الآن بقبعته وملابسه الضيقة ويحييها ، تنظر إلي لوحتها علي الحامل الخشبي ، تخرج المرأة الأربعينية وتراقصها ، تشيح المرأة قليلا بوجهها ، وتخبرها أنها تحلم بجدائل سمراء طويلة بدلا من شعر احمر ناري ، تبتسم وتعدها بأجمل جديلة كانت علي شعر رأس امرأة يوما ، وعلي أنغام الجاز تتمايل بها ، ثم تعيدها إلي المربع الفارغ إلا من البياض ، تضع لها وردة حمراء عند مفرق الشعر الأسود المنفتح علي نسمات هواء تهب من نافذة على الروح ، تطلب منها ألا تكور لها نهدين بازغين هكذا ، تقول لها المرأة في اللوحة :
ـ ارسمي نهدي صغيرين قليلا ، أخجل من عيون الرجال المتلصصة ، وأداريهما دوما بذراعي وكتبي وحقيبتي .
ـ لقد خُلق النهدان كي يتلصص عليهما الرجال ، وحتي نرتبك نحن النساء ونداريهما بحقيبة جلدية صغيرة ، وإلا ما فائدة الحقائب الجلدية والكتب .
سأرسم لك نهدين مشاكسين ويمكن لك أن تدرايهما بذراعيك وحقيبة يدك .
تعود إلى كرسيها صامتة
كان الطلاب في قاعة درس مظلمة ينشغلون في تحليل أسلوب " كيس فون دنجن " ، أدار الأستاذ البرجكتور . تسيطر فاطمة- وفرقتها الموسيقية- علي المكان ، شعرت بهن يملأن القاعة صخباً ، سألته هل زار ذلك الهولندي مصر ، ينفي لها ذلك ، لم تصدقه تماماً ، انتوت العودة إلي كتبها ومراجعها لتتأكد من كلام الأستاذ ، ثوب فاطمة يغافل الزيت والقماش ويهفهف بثنياته الكثيرة ، ملابس الراقصات حولها تنافس لون ثوبها الأحمر المشوب بخطوط بنفسجية ، واحدة منهن تغافل سيدتها التي أطلق عليها الفنان فاطمة ، وتدلق بعض الألوان علي أرضية الحجرة الداكنة ، فيما الأخري تشاغب، حتي تشد العقد من رقبة الراقصة التي تتمايل بذراعيها العاريتين ، هسيس الأساور يستفز الفتيات في قاعة الدرس ، تفوح في المكان رائحة العنبر والمسك ، وجدائل فاطمة المخضبة بالحناء تشغل الأستاذ عن الضغط علي مفتاح البرجكتور لينتقل للوحة الثانية ، الزهرتان الباسمتان علي نهديها البازغين من وراء ثوب حريري شفاف ، يغريان البنت بتلمسهما ، تصطدم يدها بملمس الزيت علي القماش ، وبصوت الأستاذ الذي يتضايق لإخفاء اللوحة وراء ظلها المتراقص ، همهمات الزملاء تنبهها ، فتلتفت إليهم خجلة وتعتذر وتعود إلي كرسيها صامتة ، مازال يشرح التعبيرية وأثرها في الشعر والموسيقي ، وهي منشغلة هناك ، تبحث عن فنان قديم تعرف أنه واقف خلف مشربية خشبية في منزل قديم يرقب من فتحاتها فرقة امرأة أطلق عليها اسم فاطمة مجازا هي وفتياتها ، كانت الراقصة تنادي علي فتيات فرقتها ، اللاتي يجهزن لحفل المساء في منزل أحد الأمراء ، عيناه تدمعان وهو يضع اللمسات الأخيرة للوحته ، ورائحة الخشب تملأ أنفه ، يغلق المشربية علي صوت فتيات ترن ضحكاتهن ، ويدارين دمعات كثيرة في مناديلهن خلف هذا الصخب ، تفيق علي الضوء يغمر حجرة الدرس ، يرص الأستاذ الشرائح الصغيرة في العلبة الخشبية ، وحين يسألها عن رأيها في اللوحة تقسم له أنها تركت الفنان هناك خلف مشربية يتنفس رائحة الخشب ويمسح دمعتين نزلتا حارقتين من أجل دموع الفتيات المنسكبة في المناديل المخفية بين النهود البازغة .
علي كوبري قصر النيل
هي تعشق السير- مساء- علي كوبري قصر النيل ، تستند بكوعيها علي حافة سوره البارد ، الهواء محمل بالبخار وأصوات الشباب الصاخبة ، ورائحة الفل المعلق علي صدور الفتيات، و ارتعاشة صوت الأحبة ، ودفء الأكف .
تنقر بكعب حذائها نقرات متتابعة ومنتظمة على إسفلت الكوبري ، صوت الموسيقي المتسرب من الباخرة مرصعة بمهرجان الأضواء والألوان يستفزها و يغريها بالرقص . تغوص أسفل ماء النهر تلملم الألوان التي جرحت وحدته وسكونه ، هو الساكن المراقب لصخب الحياة منذ آلاف الأعوام التي لا تعرف عددها .
الماء الدافيء يدغدغ جسدها ، تلملم الأضواء الذائبة في مياهه وتطيرها عصافير وفراشات ونجوما تحط علي صدور البنات المرتعشات على الكوبري ، ثم تقرر الرحيل ، تتأرجح حقيبتها خلف ظهرها ،هي لا تبالي بإشارات الشاب الواقف هناك.
…في نهاية الثلاثين
تقف علي رصيف مقابل لـ " جروبي " . تتأمل المكان الذي كثيرا ما حلمت بالجلوس إليه ، لا يهم مع من تجلس ، فقط تحلم بأن تجلس إلي الطاولة ، ويأتيها النادل فيسألها بلطف مبالغ فيه :
ـ الهانم تشرب إيه ?
يبالغ في سرد قائمة المشروبات بلكنة فرنسية مفتعلة ، ويبالغ في الانحناء حين تضع نقودا كثيرة في قائمة أسعاره الخيالية .
عبرت الرصيف دون أن تعبأ بشتائم ولعنات السائقين الغاضبين في سياراتهم المسرعة ، وقفت أمام حائط زجاجي لامع ، تأملت العاملين بستراتهم الحريرية الحمراء ، واستمتعت بالموسيقي الحالمة وهي تنساب إليها عبر الحائط نفسه ، كم تسرب إليها عبق العطور والورود، يتأملها أحد العاملين بنظرات غريبة ،تمشي على خجل ،ثم تحكي لزميلتها- في العمل- وهي تقول لها :
ـ بسيطة نعملك جمعية صغيرة واقبضيها الأول ودلعي نفسك بيها .
وحين دست النقود في حقيبتها، اشترت فستاناً لمناسبات قد لا تأتي ، وسارت إلى هناك بخطوات امرأة تدرك معنى العالم ، تعمدت أن ينزلها سائق التاكسي أمام الباب مباشرة ، وتمنت أن يلتفت العامل بسترته الأنيقة ويراها وهي تعطي للسائق النقود ، ولكنه أبداً لم يفعل ذلك ،
قالت :
ـ لا يهم
دخلت ، صوت حذائها يدك الأرضية الرخامية ، جلست إلى طاولة جنب الحائط الزجاجي، ترقب حركات الناس الصاخبة ، يأتي إليها الشاب بسترته الحريرية ، وانحناءاته كما تخيلت ذلك تماما ، طلبت شايا و جاتوه ، ثم أضافت بثقة زائدة لا تنس المياه المعدنية ، عاود الانحناء وابتعد . جلست تستمتع بطقسها الجميل ، وحين أتي إليها بفاتورة الحساب، وجدت نفسها تتعمد وضع النقود وسط قائمة الأسعار دون أن تنتظر الباقي .
تضع المربع الورقي الأبيض علي حامل الرسم ، تخط بقلم الرصاص خطوط جسد لين لامرأة أربعينية باذخة ، تضغط بإصبعها لتبزغ الألوان ، تمرر بها الفرشاة دون صقل ، تضعها كما يتراءى لها ، فتضع الأحمر الناري علي الشعر المنساب علي الكتفين وتضيف الأزرق بعفوية علي الجفون ، وتكور الشفاه الكرزية في ضمة من يستعد لتلقي قبلة يتمني أن تكون طويلة ، تلون الخدود بالوردي الرقيق ، تتذكر" كونشرتو الأبنوسي" الذي أهدته لها صديقتها صباحا ، تخرج الأسطوانة وتديرها في الجهاز ، وتدق بقدميها العاريتين علي البلاط البارد دقات إسبانية ، تمد يدها لتطير طرف فستانها الواسع في الهواء مثل راقصة إسبانية محترفة ، ذراعاها يراقصان الهواء ، لا راقص رشيق هناك يقترب الآن بقبعته وملابسه الضيقة ويحييها ، تنظر إلي لوحتها علي الحامل الخشبي ، تخرج المرأة الأربعينية وتراقصها ، تشيح المرأة قليلا بوجهها ، وتخبرها أنها تحلم بجدائل سمراء طويلة بدلا من شعر احمر ناري ، تبتسم وتعدها بأجمل جديلة كانت علي شعر رأس امرأة يوما ، وعلي أنغام الجاز تتمايل بها ، ثم تعيدها إلي المربع الفارغ إلا من البياض ، تضع لها وردة حمراء عند مفرق الشعر الأسود المنفتح علي نسمات هواء تهب من نافذة على الروح ، تطلب منها ألا تكور لها نهدين بازغين هكذا ، تقول لها المرأة في اللوحة :
ـ ارسمي نهدي صغيرين قليلا ، أخجل من عيون الرجال المتلصصة ، وأداريهما دوما بذراعي وكتبي وحقيبتي .
ـ لقد خُلق النهدان كي يتلصص عليهما الرجال ، وحتي نرتبك نحن النساء ونداريهما بحقيبة جلدية صغيرة ، وإلا ما فائدة الحقائب الجلدية والكتب .
سأرسم لك نهدين مشاكسين ويمكن لك أن تدرايهما بذراعيك وحقيبة يدك .
تعود إلى كرسيها صامتة
كان الطلاب في قاعة درس مظلمة ينشغلون في تحليل أسلوب " كيس فون دنجن " ، أدار الأستاذ البرجكتور . تسيطر فاطمة- وفرقتها الموسيقية- علي المكان ، شعرت بهن يملأن القاعة صخباً ، سألته هل زار ذلك الهولندي مصر ، ينفي لها ذلك ، لم تصدقه تماماً ، انتوت العودة إلي كتبها ومراجعها لتتأكد من كلام الأستاذ ، ثوب فاطمة يغافل الزيت والقماش ويهفهف بثنياته الكثيرة ، ملابس الراقصات حولها تنافس لون ثوبها الأحمر المشوب بخطوط بنفسجية ، واحدة منهن تغافل سيدتها التي أطلق عليها الفنان فاطمة ، وتدلق بعض الألوان علي أرضية الحجرة الداكنة ، فيما الأخري تشاغب، حتي تشد العقد من رقبة الراقصة التي تتمايل بذراعيها العاريتين ، هسيس الأساور يستفز الفتيات في قاعة الدرس ، تفوح في المكان رائحة العنبر والمسك ، وجدائل فاطمة المخضبة بالحناء تشغل الأستاذ عن الضغط علي مفتاح البرجكتور لينتقل للوحة الثانية ، الزهرتان الباسمتان علي نهديها البازغين من وراء ثوب حريري شفاف ، يغريان البنت بتلمسهما ، تصطدم يدها بملمس الزيت علي القماش ، وبصوت الأستاذ الذي يتضايق لإخفاء اللوحة وراء ظلها المتراقص ، همهمات الزملاء تنبهها ، فتلتفت إليهم خجلة وتعتذر وتعود إلي كرسيها صامتة ، مازال يشرح التعبيرية وأثرها في الشعر والموسيقي ، وهي منشغلة هناك ، تبحث عن فنان قديم تعرف أنه واقف خلف مشربية خشبية في منزل قديم يرقب من فتحاتها فرقة امرأة أطلق عليها اسم فاطمة مجازا هي وفتياتها ، كانت الراقصة تنادي علي فتيات فرقتها ، اللاتي يجهزن لحفل المساء في منزل أحد الأمراء ، عيناه تدمعان وهو يضع اللمسات الأخيرة للوحته ، ورائحة الخشب تملأ أنفه ، يغلق المشربية علي صوت فتيات ترن ضحكاتهن ، ويدارين دمعات كثيرة في مناديلهن خلف هذا الصخب ، تفيق علي الضوء يغمر حجرة الدرس ، يرص الأستاذ الشرائح الصغيرة في العلبة الخشبية ، وحين يسألها عن رأيها في اللوحة تقسم له أنها تركت الفنان هناك خلف مشربية يتنفس رائحة الخشب ويمسح دمعتين نزلتا حارقتين من أجل دموع الفتيات المنسكبة في المناديل المخفية بين النهود البازغة .
علي كوبري قصر النيل
هي تعشق السير- مساء- علي كوبري قصر النيل ، تستند بكوعيها علي حافة سوره البارد ، الهواء محمل بالبخار وأصوات الشباب الصاخبة ، ورائحة الفل المعلق علي صدور الفتيات، و ارتعاشة صوت الأحبة ، ودفء الأكف .
تنقر بكعب حذائها نقرات متتابعة ومنتظمة على إسفلت الكوبري ، صوت الموسيقي المتسرب من الباخرة مرصعة بمهرجان الأضواء والألوان يستفزها و يغريها بالرقص . تغوص أسفل ماء النهر تلملم الألوان التي جرحت وحدته وسكونه ، هو الساكن المراقب لصخب الحياة منذ آلاف الأعوام التي لا تعرف عددها .
الماء الدافيء يدغدغ جسدها ، تلملم الأضواء الذائبة في مياهه وتطيرها عصافير وفراشات ونجوما تحط علي صدور البنات المرتعشات على الكوبري ، ثم تقرر الرحيل ، تتأرجح حقيبتها خلف ظهرها ،هي لا تبالي بإشارات الشاب الواقف هناك.
…في نهاية الثلاثين
تقف علي رصيف مقابل لـ " جروبي " . تتأمل المكان الذي كثيرا ما حلمت بالجلوس إليه ، لا يهم مع من تجلس ، فقط تحلم بأن تجلس إلي الطاولة ، ويأتيها النادل فيسألها بلطف مبالغ فيه :
ـ الهانم تشرب إيه ?
يبالغ في سرد قائمة المشروبات بلكنة فرنسية مفتعلة ، ويبالغ في الانحناء حين تضع نقودا كثيرة في قائمة أسعاره الخيالية .
عبرت الرصيف دون أن تعبأ بشتائم ولعنات السائقين الغاضبين في سياراتهم المسرعة ، وقفت أمام حائط زجاجي لامع ، تأملت العاملين بستراتهم الحريرية الحمراء ، واستمتعت بالموسيقي الحالمة وهي تنساب إليها عبر الحائط نفسه ، كم تسرب إليها عبق العطور والورود، يتأملها أحد العاملين بنظرات غريبة ،تمشي على خجل ،ثم تحكي لزميلتها- في العمل- وهي تقول لها :
ـ بسيطة نعملك جمعية صغيرة واقبضيها الأول ودلعي نفسك بيها .
وحين دست النقود في حقيبتها، اشترت فستاناً لمناسبات قد لا تأتي ، وسارت إلى هناك بخطوات امرأة تدرك معنى العالم ، تعمدت أن ينزلها سائق التاكسي أمام الباب مباشرة ، وتمنت أن يلتفت العامل بسترته الأنيقة ويراها وهي تعطي للسائق النقود ، ولكنه أبداً لم يفعل ذلك ،
قالت :
ـ لا يهم
دخلت ، صوت حذائها يدك الأرضية الرخامية ، جلست إلى طاولة جنب الحائط الزجاجي، ترقب حركات الناس الصاخبة ، يأتي إليها الشاب بسترته الحريرية ، وانحناءاته كما تخيلت ذلك تماما ، طلبت شايا و جاتوه ، ثم أضافت بثقة زائدة لا تنس المياه المعدنية ، عاود الانحناء وابتعد . جلست تستمتع بطقسها الجميل ، وحين أتي إليها بفاتورة الحساب، وجدت نفسها تتعمد وضع النقود وسط قائمة الأسعار دون أن تنتظر الباقي .