الخميس، 19 يونيو 2008

عطر البنفسج الذي شاغب روحها

عطر البنفسج الذي شاغب روحها

ربما كانت منتبهة تماما لعيونه المتلصصة . ربما كانت واعية كل لفتة منه ، تعمدت مرارا أن تترك جزءا من صدرها البض يشاغبه وهي تجلس تحت الشجرة ترضع صغيرتها .. كانت منحنية علي مقدمة سيارة أحد التجار في شارع عبد العزيز الذي لا يرضي بغسيل الشاب في البنزينة المجاورة ،ويأتي بسيارته إليها، يداعبها في مودة ويخبرها أنه لا يقتنع بنظافة سيارته إلا بعد أن تمر عليها بيديها القويتين ، ثم يدس في يدها عشرين جنيها بحالها ، تفرح وتعد صغارها في ذهنها بعشوة تمام ، تدس النقود في صدرها وتبتسم ابتسامة امتنان ولا تعلق ، ينصرف الرجل الذي لم ينتظر منها الشكر يوما وهي تواصل عملها بهمة .

جاء الرجل الذي تنتظر في موعده ، شمس الغروب تسقط علي وجهه الشاحب ، فتظهره أكبر من عمره ، تظهره ضعيفا ووحيدا ، يجلس في سيارته يرقبها وهي تواصل عملها ، ولما تحس بعيونه ، تترك الرغوة الكثيرة تغطي مقدمة السيارة .تجفف يديها في في جلبابها المعقود حول وسطها . تفرده وتنفضه ، ثم تتجه إلي الشجرة ، تمسك بقطعة قماش بيضاء وتنظف وجه صغيرتها ، ثم تقربها من صدرها ، وهو جالس هناك يرقبها بأسي . فكرت كثيرا أن تصيح في وجهه ، أن تلم عليه الناس وتقول له عيب يا أستاذ جلستك دي ، ولكنها حين تلمح نظرته الأسيانة تقف الكلمات في حلقها ، وتتظاهر أنها لا تراه ، فقط تتركه يتلصص عليها ، وفقط تتمني أن تذهب إليه وتسأله بوضوح ماذا يريد منها .. أيام لا تعرف عددها وهو جالس في سيارته الفخمة في نفس التوقيت ، يمكن لواحد يسير في طريق جانبي ويبحث عن واحد ليسأله الساعة كام أن يعرف التوقيت بوصوله .. ولما امتلكت الآن قدرا من الشجاعة قررت أن ترقد الصغيرة التي ارتوت تماما ونامت ، قررت أن تذهب إليه وتحادثه . أرقدت الصغيرة في الفرشة التي أعدتها لها من جلباب قديم فرشت فوقه عباءتها التي تعود بها إلي منزلها في حارة البرقوقي في مصر القديمة ، ونصف ملاءة مهترئة صنعت منها مخدة صغيرة أنامت عليها رأس الصغيرة . وسارت بخطوات هادئة . حدسها الأنثوي لم يخبرها عنه بشيء .. تتقدم نحوه في بطء .. لم يرتبك باقترابها ، فقط ابتسم ابتسامة الواثق بتحقق توقع ما ، راهن نفسه عليه طويلا . قال لها بصوت هادئ حنون لم تسمع مثله قبلا وأشار بيده نحو الصغيرة النائمة : دي بنتك ، ضاعت كلمات كثيرة جهزتها وهي في الطريق إليه وتمتمت : أيوه يا بيه .. أنت عايز حاجة مني ... سألها بذات الصوت الدافئ : أنت اسمك إيه ؟ نظرت إليه كما المسحورة وقالت : اسمي فادية ..رد بثقة لا يعرف مصدرها .. ولا يعرف كيف ستتقبل المرأة كلماته ، فربما تنزل بكفها القوية علي وجهه .. وربما تقول له ألفاظا يخجل حتى من مجرد التفكير فيها .. ومع ذلك قال وعيناه تتركزان في عينيها اللتين لا تستقران علي شيء منذ أن اقتربت من سيارته .. : بكره يا فادية حاولي متجيبيش البنت معاكي علشان هتروحي معاي ....

وبصوت يعجب الواحد من سماعه وخاصة من امرأة عرفت بقسوتها مع الغرباء ، وعرفت كذلك بصوتها العنيف الذي تعتبره حائط دفاع تداري به ضعفها الأنثوي ، قالت : حاضر يا بيه في نفس الميعاد .. ضحك ضحكة رائقة وقال أيوه .. سلام .....

قاد سيارته الفضية وراقبها في وهي تتراجع للوراء وتبعد . وقفت تائهة لا تفعل شيئا .. انتبهت من غفلتها علي صوت فرملة قريبة . اتجهت إلي السيارة التي جفت عليها رغاوي الصابون السائل ، أكملت غسلها ، واشترت لأطفالها طعاما وفاكهة وعادت بقلب شجي . لا تعرف هل هي خائفة أم حزينة ، غاضبة أم فرحة .ز فقط كل ما تعرفه أنها باتت تحلم بصوته الحنون وهو يحادثها ..........

هو

هل كان حقا أسيرا لحزن عينيها ؟

ألم يعد لها الفخاخ التي تجعلها تتوسل إليه أن قيدني بمودتك ؟

ألم يحلم بملامسة نصف صدرها الذي يبين وهي ترضع الصغيرة ؟

ألم يكن قاسيا حد البداوة حين قال لها بلهجة من تملك فؤادها موعدنا غدا ؟

وذلك القميص الوردي الذي عطره برائحة البنفسج وفرده بطوله علي الكرسي الملاصق لسريره هل كان مصيدة أحكم غزلها ؟.. من للفقيرة بتنسم عطر البنفسج وملامسة قميص وردي مفرود بعناية علي كرسي ملاصق لسرير ؟!

هي

ألم تري نظراته المتفحصة لها منذ شهور ؟

ألم يخطر ببالها أنه يريدها كما يريد الرجال النساء ؟

هل صدقت حقا دفء صوته وحنانه ؟ وهل قابلت يوما رجلا أو حتى سمعت عنه يعطف علي امرأة من أجل حزن عيونها .. هي محض أنثي وتستشعر جيدا ما يريده الرجال .. وللحق حتى هذه اللحظة كل الرجال سواء ... ينظرون للمرأة مهما اختلفت وضعيتها كونها محض جسد ..

كيف تناست ما عاهدت نفسها علي فعله دوما ، وهي أن تصنع حائط دفاع قوي لا يلين حتي تقدر علي الوقوف في الشارع هكذا تعمل كما الرجال دون خوف .. ؟

تعمدت القسوة والعنف دوما حتى تداري ضعف روحها .. فكيف رآه ذلك الضعف الذي يؤرقها دوما ؟

أنا

كنت أراها في الفضاء الحكائي الذي كان يتشكل كلما مررت من أمامها في طريقي لمطبعة الأمل .. كنت أقف لحظات أراقبها وهي تشد أطراف جلبابها حول وسطها ، وتبين سيقانها بضة مغرية ، وبنطلونها الرخيص يشاغب العيون .. وساعداها القويين يمران بعنف علي الليفة المغموسة في رغاوي الصابون ، ثم وقفتها علي مسافة نصف متر أو يزيد من السيارة التي انتهت توا من غسلها .. تتأمل لمعان الصاج الذي تتغير ألوانه حسب كل سيارة .. ثم تبتسم راضية وتتجه بقوة آلة لا تلين إلي أخرى تنتظر .. ولا تلتفت لكل التعليقات التي تأتيها من المارة أو من السيارات المسرعة.

وحين رأيته يجهز قميصا ورديا وزجاجة من عطر البنفسج ضحكت منه ، كل الحكايا يكون فيها عطر وقميص وردي ، وكل الحكايا تكون فيها امرأة مستعدة في لحظة للوقوع في الحبائل ... وكل الرجال سواء ، ونحن الكتاب نتصيد لهم لحظات الإحكام الجيدة .

هناك 6 تعليقات:

كراكيب نـهـى مـحمود يقول...

امممممممم
انا- شعرت بدقات قلبها
وبطول انتظاره
وبشقاوة عيونك انتي

مؤنسة قرص الشمس يقول...

نص جميل
عيون ماهرة في التقاط لحظات إنسانية
دمت مبدعة

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

نهي يا جميلة
مساك زي العسل
مرسي إنك جيتي
ومرسي إن الحاجات عجباك
أخبار أصحابنا ولادك إيه ؟

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

إيزيس
يا هلا بيك
أشكرك يا جميلة

Ahmad Abdulatif يقول...

هويدا
كلما قرأت تدوينة ترسخت فكرتي الأولي عنك ، أنك لستي فقط قاصة بعينين ذكيتين تلتقط ما لا يلتقطه الناس ، بل أن لديك من الجرأة ما يجعلك متميزة . لقد عشت مع كل جملة في القصة ، مع كل لمحة وفكرة وحركة ، حتي افقتيني في النهاية علي أنها قصة وأنك كاتبتها .
تحياتي لك وتقديري .
وعلي فكرة بمناسبة ساراماجو ستنشر قريبا روايته " البصيرة " التي شرفت بترجمتها .

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

أحمد يا جميل
سأحرص علي قراءتها
وأحرص علي متابعتك
أعجبني رأيك في القصة
نلتقي قريبا