الجمعة، 5 سبتمبر 2008

1
خلفت وراءها مبنى عتيق لمدرسة كانت في يوم ما قصرا من قصور الخديو.. أشجار السرو والنخيل الإفرنجي يلفان المبنى العتيق .. حبات سوداء تتساقط من أشجار النخيل ذي السعف العريض .. انحنت والتقطت حبة سوداء .. قضمتها فامتلأ فمها بالمرارة .. تشبه في شكلها حبات عنب الديب التي كانت تنمو على شاطئ النهر في قريتها.. لكن طعمها يختلف تماما عن طعم هذه المرارة التي تملأ فمها .. طعم عنب الديب يشبه طعم العنب المختلط بطعم البرقوق .. الخواء والخوف يملأن قلبها وهي تتجه ساهمة إلى فيلا عمها في شارع خسرو ..الشارع يغرق في الظل والصمت إلا من بعض صيحات لتلاميذ صغار يسرعون بجانب أمهاتهم .. أصحاب المحلات يجلسون أمام محلاتهم .. يرمقونها في نظرات حيادية ..الشارع الظليل يذكرها بقصص العشق التي قرأتها قديما .. ما زال الخواء يملأ جوفها ومرارة الحبة التي قضمتها تزيدها حزنا ..خفف عنها مرارة ما تشعر به الآن تفهم مدير المدرسة لظروف غربتها ودراستها العليا في جامعة حلوان .. نظر إليها بعطف أب وأخبرها أنه سيضع لها جدولا مناسبا لظروفها ...
ما دار في حجرة المدرسات جعلها تبتسم في غير حماس .ضجيجهن المستمر.حماسهن في النقاش حتى في أشد الموضوعات تفاهة.نكاتهن الفاحشة.الكدرة تغطي وجوههن رغم السعادة الظاهرة والمرح الملحوظ .عيونهن كالحة ومنطفئة. بعد الترحيب اللائق بزميلة جديدة ، خصصن لها مكتبا وكرسيا متهالكين.نظراتهن تخترق وجهها الصغير المبتسم في خجل.قالت لها واحدة أنها أصغر مدرسة في الحجرة. وأضافت أخرى هندلعك لأنك آخر العنقود.
قاطعتهن على استحياء وقالت وهن يتحدثن عن شقاء النساء وتعبها في العمل والبيت :
ـ لما أكون ماشية في الشارع و أبص في وجوه الستات أشوف عليها كدرة وشقاء غير مبرر،وعيون دبلانة ومنطفئة،أعرف أن معهن رجالا خائبين فقدوا آدميتهم في اللهاث وراء لقمة العيش.
تنهدت زميلة تبدو مركز جلسة النميمة الصباحية وقالت :
ـ غير مبرر إزاي بس.! يا علياء اللي بيحصل فينا قليل؟!
أضافت وكأنها لم تستمع لكلام زميلتها :
ـ كل امرأة تبدو عليها الكآبة وضياع الروح يبقى معاها راجل معرفس يلمس روحها أكيد
ردت زميلة أخرى ستعرف فيما بعد أن اسمها مها الحسيني وستضع حملها عليها طوال الوقت :
ـ كل ست وشها مفيهوش سعادة يبقى معاها راجل حمار لمؤاخذة .
وتعالت ضحكاتهن،وغرقت هي في الصمت.حاولن جذب انتباهها لتشارك في الحديث؛فردت بجمل قصيرة.
الطريق إلى منزل عمها يطول.ترى كيف ستبدأ الحديث معه.لم تعرف كيف تحادثه أمس وهو يمسك بالزجاجة البلورية المرسوم عليها حصان أسود. شرب كمية كبيرة من الخمر .ثم حياها بجملة وحيدة:
ـ نورت يا علياء بيت عمك .
دخل إلي حجرته بعد أن أشار لها على غرفتها التي خصصها لإقامتها .
في الصباح أخرجت رأسها من حجرتها متلصصة.دارت برأسها في المكان.لم تجده. دخلت المطبخ المصمم على الطراز الأمريكي والمفتوح على الصالة الواسعة.أعدت كوبا من الشاي.احتستهفي تكاسل عله يخرج من حجرته.لما تأخر خروجه أخذت حقيبة أوراقها، وخرجت إلى المدرسة التي تقبع في نهاية شارع خسرو.ألقت نظرة على القصر المتواري خلف الأشجار وواصلت السير إلى المدرسة.


عمو عمر هكذا نادته علياء منذ أول يوم ،وهكذا رمقها هو في تأمل وتوجس.كائن غريب سيقتحم عليه وحدته. سكونه الذي يشبه جثة مهملة. أصدقاؤه القليلون رتبوا حياتهم على احترام سكونه حينما يرغب . يداعبونه بقولهم البيات الشتوي بدأ،ويتركونه لحاله .يعيش أيام صمته الإرادي .ربما تمتد الأيام لشهور.لا يجرؤ أحد على الاتصال به إلا إذا قرر هو كسر حالة الصمت .يتصل بهم ويخبرهم في مرح :عندي قزازة بلاك هورس من القرن الماضي،أو جاءتني زجاجة جون ووكر معتقة .تكون تلك الجملة الإيذان ببداية أيام المرح في الفيلا المختفية بين أشجار باسقة في شارع هادئ بحلوان .قد تأتي بعض الصديقات المنسيات، وقد يقتصر الأمر على أصدقائه المقربين ،وحتما تأتي أيام الفرح هذه.
الآن كائن بوجه مريمي طفولي يقتحم عليه عالمه. ابتسامة خجلة.يخيل لمن يراها أنها أفلتت من ملاك صغير ملَّ السماوات البعيدة وقرر أن يعيش على الأرض.
في اليوم الأول تأمل تحركاتها في المنزل .أربكته قليلا ،وهي تعيد ترتيب الأشياء.ألقى على مسامعها بضعة تحذيرات ،فلا تغير أماكن أشيائه الخاصة،ولا ترد على هاتفه وإن لم يكن موجودا .لا تهذب الحشائش في الحديقة فهو يحب منظرها الحوشي الذي يعيد إلى ذهنه صورة براري رآها في مكان ما لا يذكره على وجه الدقة.
يد الأطفال تخرب كل شيء. لم يتعود على وجودهم.ربما لأنه لم ينجب قبلا . وربما لأنه كان يرى الحسرة في عيون زوجته حين يزورهم الأصدقاء ومعهم أطفالهم .يدرك أنها ماتت تعيسة ووحيدة، ومن فرط حبها له رفضت أن تتركه من أجل الإنجاب.
أنهى أوامره بقوله يد الأطفال تخرب كل شيء،فرفعت حاجبيها دهشة ولم تقل له أنها ليست طفلة .فقط أكتفت بقولها :
ـ أمرك يا عمو.
وبذات الابتسامة الطفولية عاشت علياء على هامش الحياة في الفيلا تاركة إياه يعيش في مسالكه المفضية إلى أعماق روحه. سلوكه مجهول تماما لديها وغير مفهوم ،لكنها قادرة على التكيف معه. هو لم يتعوَّد نظرات التطلع إليه ،لكنه رآها غير مكدرة لصفوه.
في مساء ليلة خريفية شعرت بالضيق والزهق .جلست في حجرتها تذاكر محاضرات الدبلومة التي تدرسها .لم تدرك أن الباب موارب إلا حين وجدته يتطلع بعيونه الرمادية المرتجفة إلى جسدها البض خلف قميصها القطني الرقيق. فزعت وشدت الملاءة مسرعة؛فارتبك وفر مذعورا مثل فأر صغير.
أغلقت باب حجرتها وتكومت في سريرها لا تعرف تبريرا لمساحة الفزع التي تلبستها حين رأت عيونه الرمادية تتأملها.تعمدت ألا تراه.
في اليوم التالي كان يجلس في الشرفة بانتظارها.دق قلبها، وهي تخطو الخطوات القليلة من باب الحديقة الصغير حتى السلالم القليلة التي تؤدي للشرفة.انشغل بحشو البايب بالدخان وتجاهل وقوفها على أول سلمة في الحديقة .تلكأت قليلا ،ثم صعدت مستندة على الدرابزين الخشبي.
ـ سلام عليكم يا عمو.
ـ الأكل سخن على السفرة ،وأنا مستنيكي.
سارت أمامه مرتعشة الخطو،وهي تشعر بعيونه التي تشبه عيون حيوان صغير تنغرس في ظهرها.ألقت نظرة جانبية على المرآة التي تتوسط حائط الصالة الكبيرة.ترى نظرة لا تشبه كل النظرات التي رأتها في عيون الرجال تتأمل ظهرها.
حدسها يسرسب إليها مساحة من الفزع تفوق فزع ليلة أمس.
تجلس على السفرة تتأمل نشاطه وهمته، وهو يأتي بالفوط ودورق الماء الكرستالي .يصب لها كوبا من العصير الطازج :
ـ علشان تبلعي الأكل.
ثم أمسك بزجاجة مثلجة من البيرة وراح يأكل ويتحدث بحماس.حكى لها أشياء غير مترابطة من حياته. كانت تستمع بحذر وخجل . تدس اللقمة في صمت، وترشف العصير دون أن ترفع عينيها عن نقطة وحيدة في المرآة الكبيرة المذهبة. بين لحظة وأخرى يتأكد من إنصاتها.تهزُّ رأسها في صمت وهو يواصل ثرثرته.

هناك 22 تعليقًا:

نوفل يقول...

شرف كبير لي أن أكون صاحب أول تعليق...
قصة جميلة لأديبة رائعة ...
http://nofl14.blogspot.com

غير معرف يقول...

الجميله هويدا

عامله ايه في رمضان ياقمر؟كل سنه و انتي طيبه
الا قوليلي انا و هارت قلقنا علي ايزيس حاولنا ندخل علي مدونتها لقيناها حذفتها
يارب تكوني بخير
طمنينا عليها و ياريت لو فيه ايميل نقدر نتواصل معاها عن طريقه نكون شاكرين

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

صديقي العراقي الجميل
أشكرك يا عزيزي
وجميل أن تكون صاحب أول تعليق
كل عام وأنت بخير

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

عزيزتي اجندتي الجميلة
اشكر أنت وهارت العزيزة
إيزيس كانت على سفر
وعادت الليلة
هي بخير
لو تريدين إيميلها أن لست في حل في كتابته هنا
ولكن يمكن لي أن أكتب لك ايميلي وساعتها اعطيك ايميليها
hoida_sa_2@yahoo.com
على أن تكتبي يا جميلة اسمك على الايميل
لان هناك ايميلات كثيرة تصلني واحذفها دون فتحها
فقط اكتبي على الايميل اجندا
محبتي لكما

eshrakatt يقول...

هذه ليست المرة الاولى التى احط فيها على ضفافك ولكننى دائما ما اتراجع فكيف اكتب وماذا وانت تاخذيننى الى ما وراء الخيال اغوص فى الاوعى اتهاوى مع شجراتك

انت جميلة بحق

كل محبتى

اسعد دائما بالمرور من هنا

رمضان كريم وكل عام وانت اسعد الناس

كلام حسام يقول...

وهل انتهي الأمر بثرثرته فقط
اظن لها بقية ام انك تركت البقية لخيال القراء
دمت مبدعة

Ahmad Abdulatif يقول...

المبدعة والصديقة الجميلة هويدا
النص مبدع ن بس انا عايز الرواية كاملة بقي .وفي انتظارها .
أنا بدأت اقرأ ملاك افرصة الأخيرة
جوها عاجبني ، وفكرتها جديدة ،
تحياتي لاستاذ سعيد المبدع

HANY YASSIN يقول...

السلام عليكم
كل عام وحضرتك بخير
اسمع عنك واقرأ مقالاتك لكنها اول مرة اقرأ لك عمل ادبي وبالطبع لن تكون الاخيرة يا استاذتي
اسلوبك مشوق وانا احبه كثيراً واعتقد انني احاول الكتابة به لكن فطريقة تحليلك ووصفك اكثر من ممتازة
دام لنا قلمك الجميل عن حق
تحياتي
هاني يس

هانى المصرى يقول...

اكثر من رائع سلمت يداك
ورمضان كريم يا استاذه

غير معرف يقول...

العزيزه هويدا

شكر خاص مني و من هارت علي ذوقك و اهتمامك بالرد علينا و انك طمنتينا علي العزيزه ايزيس

ماكتبتيه رجع ليا ذكريات الدراسه و تخيلي ايامها كنا بنقول اننا عايزين نخلص بسرعه و ندخل الجامعه و المدرسين كانوا يقولولنا ان ايام المدرسه دي ماتتعوضش و حنندم عليها و احنا ماكناش مصدقين بس فعلا كان عندهم حق

تحياتي لموهبتك الفريده و في انتظار المزيد منك

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

العزيز نوفل
وشرف أكبر لي
أشكرك على القراءة والتعليق والتقدير
دام بيننا الود

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

العزيزة أشرقت
أعرف ذوقك ووعيك
فلنا أصدقاء مشتركون
شاكرة لمتابعتك
وأنا أيضا ضيفة دائمة عندك وإن كنت لا أعلق
محبتي يا جميلة

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

كلام حسام
اولا لها بقية طبعا
ثانيا حتى لو انتهي الأمر عند هذا الحد
الفراغات متروكة للقارئ
ليشارك في إنتاج الدلالة
مساحة من البياض يملؤها قارئ يبذل جهدا

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

أحمد فين الرواية يا أحمد
ومش باين ليه من إمبارح
لا تليفون
ولا فيس بوك
ابعت لك دباديب نهى يغلسوا عليك؟

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

هاني يس
شكرا على الكلام اللطيف
ويسعدني إنك حابب الكتابة

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

هاني علوان
كل يوم وأنت جميل

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

اجندا
أنت وهارت غاليتان
وإيزيس تعرفين كيف هي
ومن هي
جميل أن تواصلتن
هي تحسنت
وحاجات كتير حصلت
حكت لي الآن بالتليفون
يا رب تبقى بخير
هي لا تستحق سوى الخير

arsenalwy يقول...

هويدا

كلامك فى غاية الروعة ومنتهى الدقة فى أختيار الألفاظ بما تحمله من أحساس عالى

أول زيارة ليا وسعدت بها

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

arsenalwy
يا صديقي أشكرك على الكلام اللطيف
ويشرفني أن تمر دوما ها هنا

اميمة عز الدين يقول...

احسنت يا سمراء النيل وابدعتى ايتها الجميلة التى تبهرنا بكتابتها دوما وتجعلنا فى دهشة ومبروك اولا على ملاك الفرصة الاخيرة لاستاذنا سعيد نوح
بارك الله لكما وفيكما
واتمنى ان تكون روايتى نصف ساعة بالممر وصلتك وهى موجودة بمكتبة البلد ويهمنى رأيك جدا مهما كان لانك ميلة جدا من الداخل والخارج ايتها المشرقة

مصطفي النجار يقول...

اول زيارة
لمدونة رائعة
وقلم جميل

Desert cat يقول...

تعايشتمع علياء وشعرت بتوجسها اثناء نظرات عمها اليها من خلال الباب الموارب تارة ومن ظهرها تارة اخرى
ما زلت متابعه فى شغف
مودتى واحترامى